الباب الثالث الاستقامة في العبادات

 

المحافظة على الفرائض ، المحافظة على الصلاة ، المراقبة ، المحافظة على الطهارة ، أداء الزكاة ، صوم رمضان ، حج بيت الله الحرام ، الجهاد في سبيل الله ، قراءة القرآن ، طلب العلم ، دوام ذكر الله ، الدعاء ، الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، التفكر في خلق الله ، دوام الشكر ، دوام فعل الخير


ـ 29 ـ
المحافظة على الفرائض
ـ 30 ـ
المراقبة
ـ 31 ـ
المحافظة على الصلاة
ـ 32 ـ
المحافظة على الطهارة
ـ 33 ـ
أداء الزكاة
ـ 34 ـ
صوم رمضان
ـ 35 ـ
حج بيت الله الحرام
ـ 36 ـ
الجهاد في سبيل الله
ـ 37 ـ
قراءة القرآن
ـ 38 ـ
طلب العلم
ـ 39 ـ
دوام ذكر الله
ـ 40 ـ
الدعاء
ـ 41 ـ
الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـ 42 ـ
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ـ 43 ـ
التفكر في خلق الله
ـ 44 ـ
دوام الشكر
ـ 45 ـ
دوام فعل الخير

ـ 29 ـ المحافظة على الفرائض

عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قال اللّه عز وجَلّ: من أذَلّ لي وليّا إستَحَلّ محارَبتي وما تَقَرّبَ إليّ عَبدي بِمِثلِ أداء الفرائض وما يَزالُ العَبدُ يَتَقَرّبُ إليّ بالنوافِلِ حتّى أحبُّه ، إن سألني أعطيتُهُ وإن دعاني أجبتُهُ ، ما تَرَدَدتُ عن شيء أنا فاعِلُهُ تَرَدُدي عن وفاتِهِ لأنّهُ يكرَهُ الموتَ وأنا أكرَه مساءتَهُ ”

(رواه البخاري في الرقائق وأحمد واللفظ له)

المحافظة على الفرائض رأس مال المؤمن ، ومن ضيع رأس ماله بارت تجارته ، قال محمد بن منازل(1) لم يضيع أحد فريضة إلا إبتلاه الله تعالى بتضييع السنن ، ولم يبل أحد بتضييع السنن إلا أوشك أن يبتلى بالبدع. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: ثلاث صاحبهن جواد مقتصد: فرائض الله يقيمها ويتقي السوء ويُقِلّ الغفلة ، وثلاث لاتحقرن خيرا تبتغيه ولا شرا تتقيه ولا يكبرن عليك ذنب أن تستغفره وإياك واللعب فإنك لن تصيب به دنيا ولن تدرك به آخرة ولن ترضي به المليك وإنما خلقت النار لسخطه وإني أحذرك سخط الله عزوجل.

أداء الفرائض أساس القربات عند الله. فالصلوات الخمس في أوقاتها وصيام رمضان وأداء الزكاة وحج البيت لمن إستطاع إليه سبيلا ، هذه الفرائض ، إذا خلصت فيها النية لله تعالى لا يعدلها عمل آخر يقرب من الله تعالى . أما النوافل فترفع من مكانة العبد عند ربه حتى يصطفيه الله ويجعله من خاصة عباده الصالحين الذين يحبهم ويحبونه. فإن بين الناس من أحب امرؤا أحب أن يفعل ما يدخل السرور إلى نفسه. والله سبحانه إذا أحب عبدا ودعاه ذلك العبد بدعوة يحب أن يستجيبها الله له ، فإن الله يجيب دعاءه. ولكن الله تعالى قد كتب أمورا لا ينفع فيها دعاء داع. فلو طلب شخص من الله أن يخلده في هذه الحياة فلن يستجيب الله لمثل هذا الدعاء لأن مشيئته عز وجل قد سبقت ذلك الدعاء بحدود أجل ذلك الشخص ، فإذا جاء الأجل فلا يتأخر ساعة ولا يتقدم ، والله يكره أن يفعل ما يكرهه حبيبه المؤمن بقبض روحه ، لكنه لا بد فاعل.

إن لكل فريضة من الفرائض ما يشابهها من النوافل لسد النقص فيها ولزيادة التقرب إلى الله تعالى بعبادة تماثل ما فرض. فهناك نوافل من الصلوات وهناك صدقة التطوع فوق الزكاة وهناك العمرة وحج التطوع بعد الفريضة ، فإذا أدّى العبد الفرائض وازداد من النوافل تقرب من الله فيحبه الله ويكون من جملة أولياء الله الصالحين الذين لهم مكانتهم عند الله تعالى من إجابة الدعاء وقبول الشفاعة وحسن الثواب يوم القيامة والدفاع عنهم في الحياة الدنيا . ففي بداية هذا الحديث تهديد من الله تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وآله وسلم لمن يعادي أولياء الله الصالحين . وسنأتي على تفصيل أكثر لذلك في الحديث ـ(60)ـ

ـ 30 ـ المراقبة

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم ، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب ، شديد سواد الشعر ، لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد ، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ، ووضع كفيه على فخذيه وقال: يامحمد... أخبرني عن الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” الإسلامُ أن تَشهَد أن لا إله إلاّ اللّه ، وأن محمدا رسولُ اللّه ، وتقيمَ الصَلاةَ ، وتؤتي الزّكاة ، وتَصومَ رَمضانَ ، وتَحجَ البيتَ إن إستطعتَ إليهِ سَبيلا ” ، قال صدقت ، فعجبنا له ، يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان ، قال: ” أن تؤمِنَ باللّه ، وَملائكتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليومِ الآخِرِ ، وتؤمِنَ بالقَدَرِ خيرِهِ وشَرّه ” ، قال: صدقت . قال فأخبرني عن الإحسان ، قال: ” أن تَعبُدَ اللّهَ كأنّكَ تَراهُ ، فإن لَم تَكُن تَراهُ فإنّهُ يَراكَ ” ، قال فأخبرني عن الساعة ، قال: ” ما المَسؤولُ عنها بأعلمَ من السائلِ ” قال فأخبرني عن أماراتها ، قال: ” أن تَلِدَ الأمَةُ رَبَّتَها ، وأن تَرى الحُفاة العُراةَ العالَةَ رعاء الشاءِ يَتَطاوَلونَ في البُنيان ” ، ثم إنطلق فلبث مليا ثم قال: ” يا عمر... أتَدري مَن السائلُ؟ ” قلت الله ورسوله أعلم ، قال: ” فإنّهُ جبريلُ أتاكُم يُعَلّمَكُم دينَكُم ”

(رواه مسلم)

في هذا الحديث علم كثير يستحق أن تكتب فيه الكتب ، لكن ما نود ذكره هنا هو أن أساس العبادات هو مراقبة الله تعالى فإنه يَرى ولا يُرى ، ومن عبد الله وكأنه يرى الله تعالى فقد بلغ مرتبة الإحسان . وهذه المراقبة لاتكون بالدعوى والكلام بل هي في قلب المرء ، ومن راقب الله في سره هداه الله إلى الأعمال الصالحة ويسرها له ، فمراقبة النفس ما هي إلاّ مجاهدتها أن ترتكب ما لا يرضاه الله تعالى.

قال الله تعالى: ” والذينَ جاهَدوا فينا لنَهدِيَنَّهُم سُبُلَنا ، وإنّ اللّهَ لَمَعَ المُحسِنينَ ” (2) وقد كان أشد الناس مراقبة لله تعالى بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أصحابه الكرام فقد ورد عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إنَّكُم لتعملون أعمالا هي أدق في أعينكم من الشعر ، كنا نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الموبقات(3). وقال ذوالنون المصري علامة المراقبة إيثار ما آثر الله تعالى وتعظيم ما عظَّم الله تعالى وتصغير ما صغّر الله تعالى . ذلكم هو الفرق بين جيل الصحابة وتابعيهم وبين ما أعقبهم من أجيال: فلقد عبدوا الله تعالى بإخلاصهم ومراقبتهم لأنفسهم قبل أن تتحرك جوارحهم بالعبادة فأكرمهم الله تعالى بالهداية والتسديد في هذه الحياة الدنيا ولأجر الآخرة أكبر.

ـ 31 ـ المحافظة على الصلاة

عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

ما من امرئ مُسلِم تَحضُرهُ صلاة مَكتوبَة فيُحسِنَ وُضُوءها وخُشوعَها ورُكوعَها إلاّ كانت كَفّارَة لِما قَبلَها من الذُنوبِ ما لم تُؤتَ كَبيرة وذلك الدَهرَ كلَّه ”

(رواه مسلم)

قال الله تعالى: ” إن الصّلاةَ كانَت على المُؤمنينَ كِتابا موقوتا ” (4) ، وللتوقيت حكمة بالغة في تطهير المؤمن وتذكرته مرة بعد أخرى خمس مرات كل يوم وليلة في الصلوات الخمس ومرة كل أسبوع في صلاة الجمعة ومرتين في السنة في صلاتي العيدين ومرات في كل حادث خاص كالجنازة والكسوف والإستسقاء. وقد تكررت آيات الأمر بإقام الصلاة عشرات المرات في القرآن الكريم . وإقام الصلاة هو ليس أداؤها قياما وقعودا بل هو تنفيذ أركانها من خشوع وتفكر وتدبر لآيات الله تعالى ثم إنعكاس ذلك بعد أدائها على فعله وتركه خارجها من إتباع لأوامر الله تعالى وإنتهاء عما نهى عنه. فلا عجب إذا كانت الصلاة وسيلة لتطهير العبد مما يعلق به بين الصلوات من شوائب الدنيا وغفلة وصغائر الذنوب . أما إذا ارتكبت الكبائر فتلك ذنوب كبيرة لا تكفي الصلوات الخمس لتطهيرها . والمؤمن الصادق أصلا مجتنب للكبائر فهو يرجو أن يمنّ الله عليه بالمغفرة مرة بعد أخرى كل صلاة من الصلوات المكتوبة . وذلك الدهر كله ، فهو طاهر من الذنوب مستعد للقاء ربه أية لحظة قدّر الله عليه الموت فيها.

والمسلم المستقيم يعبد الله كأنه يراه ، والعبادة هنا تشمل المعنيين: المعنى الإصطلاحي من صلاة وصيام وزكاة ، وما سنذكره من عبادات أخرى في هذا الباب ، كما تشمل العبادة بمعناها العام وهي إخلاص النية لله في كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة إبتغاء مرضاة الله تعالى . فإذا استشعر المسلم أن الله يراقبه على الدوام كأنه يرى الله تعالى ، فإنه جعل في داخل نفسه ناصحا مراقبا له يسدده كلما أخطأ ، وينصحه كلما إحتاج إلى نصيحة ، وهداه إلى الصراط المستقيم كلما أشكلت عليه الطرق ، والله تعالى أقرب للمرء من حبل الوريد وهو الهادي إلى سواء الصراط.

لقد وصف الله الصلاة: ” وإنَّها لَكَبيرَة إلاّ على الخاشِعينَ ” (5) ، فالصلاة عماد الدين ومن تركها فقد هدم دين نفسه ، وأول ما يُسأل العبد يوم القيامة عن الصلاة وكان من جملة آخر ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمته بالصلاة . فالمؤمن الصادق لا يتهاون بالصلاة أبدا ، ويحرص على أدائها جماعة أول وقتها إن إستطاع وإلاّ منفردا ضمن وقتها المسموح بها ولا يؤخرها إلى نهاية الوقت إلاّ مضطرا ولا بعد خروج وقتها ، وهو يصلي مع الفرائض الخمس السنن الراتبة ويصلي ما تيسر له من النوافل . وأهم ما يجب أن ينتبه إليه المرء في الصلاة هو ما ذكر في هذا الحديث من تحسين للوضوء والطهارة التامة والخشوع التام وإتمام الركوع والسجود.

ـ 32 ـ المحافظة على الطهارة

عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” الطّهورُ شَطرُ الأيمانِ ”

(رواه مسلم)

الطهور واسع الجوانب بما فيه من طهارة من الحدث وإستنجاء ووضوء وطهارة من النجاسة والنظافة الظاهرة والباطنة . ولقد خلق الله تعالى الماء طاهرا ومطهرا ووفره على سطح الأرض بكثره وخلق منه الكائنات الحية حيث قال: ” وجَعَلنا مِنَ الماءِ كُلّ شيء حيّ ” (6). وحث الله تعالى على المبالغة في التطهر حيث مدح الأنصار فقال: ” يُحبّونَ أن يَتَطَهَروا واللّهُ يُحِبُّ المطَّهِرينَ ” (7)

الطهارة عبادة قائمة بحد ذاتها مستقلة عن الصلاة رغم أنها شرط لها ، لذلك فمن الطهارة ما هو فرض ومنها ما هو سنة أو نافلة . فالوضوء قبل النوم مستحب ، بل كان بعض الصحابة كعبد الله بن عمر رضي الله عنهما لا يُرى جالسا إلاّ طاهرا ، كما أن غسل اليدين مستحب قبل الطعام وبعده ، والإستنزاه من البول واجب فحين مر صلى الله عليه وآله وسلم على قبرين ذَكَرَ أن أحدهما يعذب في قبره لأنه كان لا يتنزه من البول(8). ومن الأمور التابعة للطهارة الختان وقص الأظافر وقص الشارب ونتف الإبط ، وكل ذلك من حث الإسلام على النظافة ، كما أن غسل الميت وشرط طهارة المكان الذي يصلى فيه والثياب التي يلبسها أثناء الصلاة ، كل ذلك مما أوجبه الله مما له علاقة بالطهارة.

والمبالغة في الطهارة أمر مستحب ، لكن الوسوسة غير ذلك فمتى عرف المرء أنه قد أتم جزءا من أمور الطهارة عليه أنلا يعود إلى ما يشكك الشيطان فيه من ظن بأنه ربما يكون قد أغفل ذلك . كما أن التبذير في إستخدام الماء في الوضوء أو الإستحمام أو الإستنجاء مكروه جريا على أصل كراهة التبذير بصورة عامة: ” إن المُبَذرين كانوا إخوانَ الشياطين وكانَ الشيطانُ لرَبّهِ كَفورا ” (9). وللطهارة عند عدم وجود الماء بديل هو التيمم والذي هو فعل لتأكيد القصد رغم أنه لا أثر ظاهر له في إزالة النجاسة ، وهذا يشير إلى إختلاف مفهوم الطهارة عن النظافة ، فالطهارة والنظافة متداخلتان أحيانا ومختلفتان في أحيان أخرى . ولو لم يكن في الطهارة سوى الفوائد التي لها علاقة بالنظافة لكفى بذلك أمرا يستحق أن يفخر به المسلم . ومن عاش في بلد فيه كثرة من غيرالمسلمين واطلع على دقائق أحوالهم وما ينتشر بينهم من أمراض عرف مقدار النعمة التي أنعم الله بها على المسلمين بأمور الطهارة وما يتعلق بها.

والطهارة الباطنة وهي الأهم تعني تنزيه الباطن عن الإثم والشر والسوء. فتطهير الظاهر ما هو إلاّ وسيلة من وسائل تطهير الباطن ، فالقيام بأعمال الطهارة يُذَكِّرُ الإنسان بضرورة الإهتمام بطهارة الباطن والتي تهدف إليها معظم العبادات الأخرى ، وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في كثير من الآيات مثل قوله تعالى عن ذبح الأضاحي: ” لن ينالَ اللّهَ لُحومُها ولا دِماؤها ولكن ينالُهُ التَقوى منكُم ” (10)

ـ 33 ـ أداء الزكاة

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فقال: يا رسول الله دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة... قال: ” تعبُدَ اللّهَ لا تُشرِك بهِ شيئا ، وتُقيمَ الصلاةَ ، وتؤتي الزكاة المَفروضَةَ ، وتَصومَ رَمضانَ ” ، قال والذي نفسي بيده لا أزيد على هذا . فلما ولّى ، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ” مَن سَرّهُ أن يَنظُرَ إلى رَجُل من أهل الجَنّةِ ، فليَنظُر إلى هَذا ”

(متفق عليه)

الزكاة المفروضة قرنت بالصلاة في القرآن الكريم في عشرات الآيات ، وقال أبو بكر الصديق حين إمتنع الأعراب عن دفع الزكاة: والله لآقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، وَسُمُّوا بالمرتدين لقولهم عن الزكاة أنها كالجزية ، أو أنهم دفعوها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كنبي فلا تدفع لأحد من بعده. والزكاة عبادة ذات أثر إجتماعي واضح من تكافل وتعاون ومساعدة للفقراء والمحتاجين . وهي لها أثرها على المرء الذي يدفعها نفسه في مقاومة البخل والحرص والشح وحب الدنيا وتعلق القلب بها ، وفي كل ذلك فائدة للمرء نفسه حيث يزداد تقوى وتسمو روحه ويتقرب بذلك إلى الله عز وجل . فالمؤمن الصادق يعتبر المال مال الله قد وكله الله تعالى عليه مدة محدودة (أثناء حياته) ، فهو يستعمله لخير نفسه وذوي قرباه ويبتغي بذلك وجه الله تعالى ، ويؤدي حق الله فيه من زكاة مفروضة ويزداد ما استطاع في الصدقات فوق الفريضة ، فكل ذلك ذخر له في الآخرة . فقد أنفق أبوبكر الصديق رضي الله عنه كل ماله في سبيل الله وأنفق عمر نصف ماله وأنفق غيرهما الكثير.

وفي وصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم للرجل بأنه من أهل الجنة ملاحظة تستحق الوقوف عندها . فصدق الأعرابي ومعاهدته الله سبحانه وتعالى أمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يلتزم بهذه الأركان ، هو الذي جعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يخبر أصحابه بمكانته عند الله تعالى ، وهي كذلك لكل من صدق مع الله والتزم بما يأمره الله به من فرائض أساسية . وتلك هي البيعة الصادقة.

ـ 34 ـ صوم رمضان

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

قال اللّه عزّوجَلّ: كُلّ عَمَلِ ابنِ آدم لَهُ إلاّ الصيامُ فإنّهُ لي وأنا أجزي به ، والصيامُ جُنّة ، فإذا كانَ يومُ صَومِ أحدِكُم فلا يَرفُث ولا يَصخَب ، فإن سابّهُ أحَد أو قاتَلَهُ فليَقُل إنّي صائم ، والّذي نَفسُ مُحَمّد بيَدِهِ لَخَلوفُ فَمِ الصائمِ أطيَبُ عِندَ اللّه مِن ريح المِسك . للصائِمِ فَرحَتانِ يفرَحُهُما ، إذا أفطَرَ فرِح ، وإذا لَقيَ رَبّهُ فَرِحَ بِصومِهِ ”

(متفق عليه)

الإستقامة سيطرة الإنسان على تصرفاته بما يوافق الشريعة الغراء ، وما الصيام سوى وسيلة لمساعدته في ذلك ، فإذا إستطاع أن يسيطر على شهواته إنقادت له نفسه ، فكانت مساعدة له في الإستقامة على النحو الذي يرضي ربه. فالصيام عبادة خاصة يجازي الله سبحانه وتعالى عليها جزاء خاصا لأن فيها سرا بين العبد وربه لا يعلمه إلا هو ولهذا نص هذا الحديث الشريف على أن الصيام لله تعالى . وهي عبادة للمسلمين ولمن سبقهم من الأمم حتى التي لم يؤثر ان لها كتاب منزل من عند الله وهي علاج بدني وروحي فريد. فالصيام وقاية من المفاسد ووسيلة لترويض الإنسان على الصبر وتحمل المشاق والشدائد وتحمل الأذى ومقابلة الإساءة بالإحسان وكبح جماح النفس لكي تكون منقادة لمكارم الأخلاق التي يرضى عنها الله سبحانه وتعالى.

إن صيام شهر رمضان تزكية لنفس المؤمن شهرا كل سنة وترويض لها . وهو بحاجة إلى هذه التزكية البدنية لكي تسمو روحه ويستطيع التحكم في شهواته فلا يستعملها إلاّ في طاعة الله تعالى . كما أن البدن نفسه بحاجة إلى هذه العبادة من راحة للمعدة وتنظيم لجهاز الهظم وتغيير للعادة وغير ذلك . وبعد صيام رمضان ، للمسلم أن يصوم تطوعا ما ورد في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوما قبله ويوما بعده وثلاثة أيام من كل شهر أو يومي الإثنين والخميس ، وأفضل الصيام صيام داود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما.

ـ 35 ـ حج بيت الله الحرام

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” مَن حَجّ فَلَم يَرفُث ولَم يَفسُق رَجَعَ مِن ذُنوبهِ كيومِ وَلَدَتهُ أمُّهُ ”

(رواه الستة إلاّ أبا داود)

الحج خامس الأركان الخمسة ، وهو فريضة في العمر مرة لمن إستطاع إليه سبيلا . وهو مجمع المسلمين السنوي ، وفيه يتشبه الحاج بالأموات الذين سيكون يوما ما واحدا منهم ، فهو تذكرة بالغة للمسلم لكي ينقلب على سالف أيامه إن كان من المسرفين فيها ، ويزداد إحسانا إن كان من الصالحين . والحج هو المؤتمر العام للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ، لكي يستشعروا أن ربهم واحد ونبيهم واحد وقبلتهم واحدة وأمتهم واحدة: ” إنّ هذه أمّتُكُم أمّة واحدة وأنا ربُّكُم فاعبُدونِ ” (11)ـ. والمؤمن يتوق إلى زيارة بيت الله الحرام في أول فرصة تسنح له ، ولا يؤخر ذلك ، فرب فرصة تسنح ولا تتكرر ، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام: ” تعَجَّلوا الحجّ فإنّ أحدكُم لا يَدري ما يَعرِضُ لهُ ” (12). فالحج للمرة الأولى فريضة وما بعدها نافلة ، فمن إستطاع تكرار الحج بعد الحج فذلك خير. أما العمرة فعلى المؤمن أن يؤديها ولو مرة واحدة مع حجه ، سواء كان مفردا أو متمتعا أو قارنا . فإن إستطاع أن يؤدي غيرها في غير وقت الحج فتلك نافلة وفيها ثواب عظيم.

وحينما تسنح فرصة حج فرضا أو نافلة أو فرصة العمرة ، على المسلم أن يستغلها لزيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والسلام عليه فزيارة قبره لمن لم يدركه كزيارته حيا لأن الأنبياء أحياء في قبورهم.

ـ 36 ـ الجهاد في سبيل الله

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قلت يا رسول الله أي العمل أفضل؟ قال:

الإيمانُ باللّه والجِهادُ في سَبيلِ اللّه ” .

(متفق عليه)

الجهاد في سبيل الله هو بذل الوسع في سبيل مرضاة الله تعالى ويشمل قتال الكفار والمشركين والمنافقين والبغاة والمحاربين الآخرين ، كقطاع الطرق ودفع المعتدين سواء كان ذلك في ساح القتال أوبالحجج واللسان أو الأموال أو بالدعوة والعلم . ويشمل جهاد المعتدين من إعتدى على العقيدة والشريعة والوطن والعرض والمال . والمجاهد الحق هو الذي ينذر حياته في سبيل الله ويؤثر مرضاته عزوجل على السلامة والراحة وهو يدعو الله أن يبلغه منازل الشهداء ، ومثل هذا يستجيب الله تعالى له ويبلغه منازل الشهداء حتى وإن توفي على فراشه كما قال صلى الله عليه وآله وسلم في حديث آخر: ” من سألَ اللّهَ الشّهادةَ بِصِدق بَلّغَهُ منازلَ الشُهداءِ وإن ماتَ على فِراشِهِ ” (13)

الجهاد بعضه أفضل من بعض ، فأفضل الأعمال ساعة حضور الأعداء هو الجهاد ، وعمل المرأة في بيتها هو جهاد ، وكسب الرجل من الحلال إبتغاء التكفف عن سؤال الناس جهاد ، وإتقان العامل واجبه جهاد ومجاهدة النفس وردعها عن الوقوع في الآثام جهاد في سبيل الله. وشرط صدق النية الخالصة في سبيل الله أمر أساس في كل ذلك . وليس القتال حمية أو عصبية أو إبتغاء كسب دنيوي جهاد في سبيل الله ، حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” مَن قاتل لتكونَ كَلِمَةُ اللّهِ هي العُليا فهُو في سَبيلِ اللّه ” (14)

والمؤمن الحق حين يقرأ في كل صلاة : ” قُل إن صلاتي ونُسُكي وَمَحيايَ وَمَماتي لِلّهِ رَبّ العالَمينَ ” (15) ، يتذكر أن ذلك عهد مع الله ببذل الجهد في الحياة كلها حتى الممات في سبيل الله. وليس معنى ذلك أن يتمنى المؤمن دخول المعارك والحروب بدون هدف واضح بل هو يكره سفك الدماء ، لكن إذا قدّر الله تعالى ذلك صبر وثبت كما قال صلى الله عليه وآله وسلم: ” لا تَتَمَنّوا لقاء العَدو فإذا لَقيتموهُم فاصبِروا ” (16)

والمجاهد في سبيل الله لا يبالي بنتيجة جهاده لأن النتيجة هي الخير دائما: ” قُل هَل تَرَبّصونَ بِنا إلاّ إحدى الحُسنيينِ ” (17)ـ ، كما إن تحقيق النصر مقترن بنصرة المؤمنين لله عز وجل: ” إن تَنصُروا اللّه يَنصُركُم ويُثَبّت أقدامَكُم ” (18). وما على المجاهد سوى إعداد ما إستطاع من قوة وعدم التهاون في ذلك: ” وأعِدّوا لَهُم ما استَطَعتُم مِن قُوَة ” (19). أما بعد ذلك فإن النتيجة موكولة إلى الله عزوجل وما يختاره هو الخير سواء كان نصرا أو شهادة.

ـ 37 ـ قراءة القرآن

عن عبد الرحمن بن شبل عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

إقرأوا القُرآنَ واعمَلوا بِهِ ولا تَجفوا عَنهُ ولا تَغلوا فيه ولا تأكُلوا بِهِ ولاتَستَكثِروا بِهِ ”

(رواه أحمد والطبراني والبيهقي وأبي يعلى)(20)

قراءة القرآن من أفضل العبادات ، وهي واسطة إستقبال أوامر الله تعالى بغية تنفيذها والعمل بما جاء فيها ، ومن أهمل تلاوة كتاب الله فترة دون عذر فقد جفاه. وهَذه التلاوة يجب أن تكون إبتغاء وجه الله تعالى ، لا للمفاخرة والمكاثرة والجاه أو إبتغاء متاع دنيوي زائل . والغلو في القرآن هو التمسك بتعصب بأمور لم يقصدها الشرع كالرهبانية أو الشذوذ في تفسير بعض الآيات قال الله تعالى: ” قُل ياأهلَ الكِتابِ لا تَغلوا في دينِكم غير الحَقّ ولا تَتَّبِعوا أهواَء قوم قد ضلّوا مِن قَبلُ وأضلّوا كثيرا وضَلّوا عَن سواء السَبيلِ ” (21)

العبادة في تلاوة القرآن متنوعة: فالتلاوة بالمصحف ، وعن ظهر قلب ، وترتيله ، وفي الصلاة ، وفي كل أوقات الفراغ ، والإستماع إليه ، وتعليمه وتعلم تفسيره وباقي علومه ، كل ذلك عبادة ، فتعظيم كتاب الله تعالى تعظيم لله والله عنده حسن الثواب . ويأمر صلى الله عليه وآله وسلم إضافة إلى العمل به وعدم الجفاء عنه أو الغلو فيه ، عدم التكسب بتلاوته إبتغاء متاع دنيوي زائل.

كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى رضي الله عنه: ذكِّرنا ربنا ، فيقرأ عنده القرآن حتى يكاد يتوسط وقت الصلاة فيقال يا أمير المؤمنين الصلاة الصلاة فيقول أولسنا في صلاة؟ إشارة إلى قوله تعالى: ” ولَذِكرُ اللّهِ أكبرُ ” (22)

ـ 38 ـ طلب العلم

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

مَن سَلَكَ طَريقا يَبتَغي فيه عِلما سَلَكَ اللّهُ له طَريقا إلى الجَنّة وإنّ الملائِكَةَ لَتَضَعُ أجنِحَتَها لِطالِبِ العِلمِ وإنّ العالِمَ ليَستَغفِر لَهُ مَن في السَماواتِ وَمَن في الأرضِ حَتّى الحيتانُ في الماء. وَفَضلُ العالِمِ على العابِدِ كَفَضلِ القَمَر على سائر الكواكِبِ ، إنّ العُلماءَ وَرَثَةُ الأنبياء ، إنّ الأنبياءَ لَم يُورِّثوا دينارا ولا دِرهَما ، إنّما ورّثوا العِلمَ فَمَن أخَذَ بِهِ أخَذَ بِحَظّ وافِر ”

(رواه ابو داود والترمذي واللفظ له)

طلب العلم من أفضل العبادات وهو أفضل من النوافل خاصة إذا عمّ الجهل وقلّ العلماء وانتشرت البدع واتبع الناس الجهلة . وطلب العلم فريضة على كل مسلم ذكرا كان أم أنثى(23) بما يكفيهم من أداء عباداتهم ومعرفة ربهم وإكتساب معيشتهم . أما ما سوى ذلك فهو فرض كفاية يكفي أن يتخصص به بعض الناس وعند ذلك يسقط الفرض عن الباقين ، أما إذا تركه الجميع فالإثم يعم كل من استطاع طلب العلم وقصّر في ذلك ، قال الله تعالى: ” وما كانَ المؤمِنونَ لِيَنفِروا كافّة فَلولا نَفَرَ مِن كُلّ فِرقَة منهُم طائِفَة لِيَتَفَقّهوا في الدينِ ولِيُنذِروا قومَهُم إذا رَجَعوا إليهِم لَعَلَّهُم يَحذَرون ” (24)

وعظ رجل عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فقال: إنه كان يقال إن إستطعت أن تكون عالما فكن عالما ، فإن لم تستطع أن تكون عالما فكن متعلما ، فإن لم تستطع أن تكون متعلما فأحِبَّهم ، فإن لم تستطع فلا تبغضهم ، فقال عمر: سبحان الله لقد جعل الله لنا مخرجا . وقال سفيان بن عيينة(25):ـ
إن كان الرجل ليسمع الكلمة فيصير بها فقيها . وذلك بالطبع إذا وعاها وعمل بها وبلّغها ، فإن من طلبة العلم من يتعلم علما لكنه لا يفقهه ، فيحمله إلى من هو أفقه منه ، ” فرُبّ مُبَلَّغ أوعى من سامِع ” (26). وعن الحسن البصري: كان الرجل إذا طلب العلم لم يلبث أن يُرى ذلك في تخشُعه وبصره ولسانه ويده وصلاته وحديثه وزهده ، وإن كان الرجل ليصيب الباب من أبواب العلم فيعمل به فيكون خيرا له من الدنيا وما فيها لو كانت له فجعلها في الآخرة
.

والمؤمن يستمر بالتعلم حتى يوافيه أجله وهو يتواضع لمن علّمه ويحترم أهل العلم ويجلّهم فصفة العلم منسوبة إلى أحد أسماء الله الحسنى: العليم . وقد مدح الله الذين يعلمون : ” قُل هَل يَستوي الّذينَ يَعلَمونَ والّذينَ لا يَعلَمونَ ، إنّما يَتَذَكَّرُ أولوا الألبابِ ” ـ(27)ـ
، وقال: ” إنَما يَخشى اللّهَ مِن عِبادِهِ العُلَماءُ ” (28). فطلب العلم ونشره ليس حكرا على طبقة من الناس إتخذوا العلم مهنة . فلقد كان لأئمة هذا الدين من علماء الصحابة والتابعين وتابعيهم حِرَف يكتسبون منها رزقهم ويتعلمون العلم ويعلمونه الناس خالصا لوجه الله تعالى بدون أية أجور. لذلك على المؤمن المحترف أن يعتبر طلب العلم وتعليمه واجبا عليه قدر ما إستطاع ، وليس ذلك حكرا على من تفرغ للعلم واعتبره مهنة يكتسب منها رزقه ، رغم جواز ذلك ، بل هو اليوم ضرورة للتخصص في حقول معينة لا يستطيع إدراكها غير المختصين.

كما أن العلم بشكله العام لا ينحصر في علوم الآخرة وحدها ، بل إن كل علم يفيد الناس في أمور دنياهم ومعيشتهم دخل تحت هذا الباب ، لكن العلوم (الدنيوية والأخروية) بعضها أفضل من بعض ، وبعضها أكثر وجوبا من بعض حسب حاجة الناس إلى ذلك العلم في أمور آخرتهم أولا ثم في أمور دنياهم . ومما يدخل في علوم الآخرة من العلوم المكملة (كالبلاغة والصرف والنحو مثلا) ما هو أقل ضرورة من علوم الدنيا (كالطب إذا كثرت الأمراض واحتاج الناس إلى ذلك). ففي تعلُّم وتعليم هذه العلوم عبادة إن أخلصت النية لله تعالى . فتخريج عدد كاف من الأطباء هو فرض كفاية لا يسقط عن الأمة ما دامت هناك حاجة للمزيد منهم ، وكذلك بقية التخصصات الضرورية.

ـ 39 ـ دوام ذكر الله

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

” يقول الله تبارك وتعالى: إذا ذَكَرني عَبدي في نفسِهِ ذكَرتُه في نَفسي ، وإذا ذكَرَني في ملأ ذكَرتُهُ في مَلأ خير مِن ملأِهِ ، وإذا تَقَرَبَ مني شبرا تَقَرّبتُ مِنهُ ذراعا ، وإذا تَقَرّبَ مني ذراعا تَقَرّبتُ منهُ باعا ، وإذا مشى إليّ هروَلتُ إليهِ ”

(متفق عليه)

ذكر الله على كل حال من أفضل العبادات ، قال الله تعالى: ” الّذين يذكُرونَ اللّهَ قِياما وقُعودا وعلى جُنوبِهِم ” (29) فالذكر لا يعيقه سفر ولا عمل بدني لأن مكانه القلب والمساعد فيه اللسان ، ولذلك قال تعالى: ” فإذا قُضِيَتِ الصلاةُ فانتَشِروا في الأرضِ وابتَغوا مِن فضل اللّه ، واذكُروا اللّهَ كَثيرا لَعَلّكُم تُفلِحونَ ” (30) ، وقال في الجهاد: ” ياأيُّها الّذينَ آمنوا إذا لَقيتُم فِئَة فاثبُتوا واذكُروا الله كثيرا لعلّكُم تُفلِحون ” (31) ، ولفظ الكثرة لافت للأنظار في هذه الآيات وفي غيرها كقوله تعالى: ” والذاكِرينَ اللّهَ كَثيرا والذاكراتِ ” (32). وقد ذم الله تعالى المنافقين رغم ذكرهم الله عزوجل فقال: ” ولا يَذكُرونَ اللّهَ إلاّ قَليلا ” (33). فعلى المؤمن أن يكثر من ذكر الله في كل وقت ، ففي ذلك تذكرة له بربه ومن ثم بطاعته واجتناب معصيته وبعد عن الغفلة . وعلى المرء ان يكثر من ذكر الله في كل أحواله لأنه لا يعلم متى تأتيه المنية وبعد ذلك يتحسر كيف مرت به ساعة لم يشغلها بذكر الله تعالى. قال صلى الله عليه وآله وسلم حين سُئل عن أفضل الأعمال فقال: ” أن تموتَ ولِسانُكَ رَطب بِذِكراللّه عزّ وجَلّ ” (34)

إذا ذكر العبد ربه نال منزلة عالية عند الله تعالى حين يذكره الله تعالى في الملأ الأعلى إن كان ذكر الله في ملأ ، أو يذكره الله في نفسه إن كان ذكره منفردا ويؤكد ذلك قوله تعالى: ” فاذكُروني أذكُركُم ” (35). والعبد الصالح يذكر ربه كلما وجد إلى ذلك سبيلا . يقول الشبلي(36)

ذكــرتـك لا أني نســيتـك لـمـحـة وأيســـر ما في الذكر ذكر لســاني

وكدت بلا وجد أموت مـن الــهوى وهــــام عليّ القـلـب بـالـخـفـقـان

فلما أراني الوجد إنـك حـاضـــــري شـهـدتـك مـوجـودا بكـل مـكـان

فخـاطـبـت مـوجــودا بغير تـكلـــم ولاحـظـت معـلــــــوما بغير عيان

فإذا أكثر العبد الذكر مع تطبيقه أوامر الله تعالى الأخرى واجتناب نواهيه ، وصل مرتبة الإحسان حين يعبد الله كأنه يراه كما مر في الحديث (30)ـ

وهكذا يَعذُب الذكر للذاكر بعد أن يكابده فترة تطول أو تقصر. يقول الحسن البصري: تفقدوا الحلاوة في ثلاثة أشياء: في الصلاة والذكر وقراءة القرآن فإن وجدتم وإلاّ فاعلموا أن الباب مقفل (أي بسبب معاصيكم). وإن من الذكر ما يفضل غيره في أوقات معينة . فالتسمية قبل الطعام والحمد بعده ، والتسبيح والتحميد والتكبير عقيب الصلوات الخمس وأذكار الصباح والمساء وغير ذلك من الذكر المسنون أفضل ما يقال في تلك الأحوال . أما الذكر العام الذي يفضل غيره بصورة عامة فهو قول لا إله إلاّ الله. ويشمل هذا الحديث ذكر الله مجتمعا بالتسبيح والتحميد والتهليل بعد الصلوات وقبل الإنصراف أو الذكر بصوت واحد أو الذكر منفردا ، والمؤمن الحق يكون مع الله لحظة ذكره مستجمعا فكره في ما يذكره خاشعا وجل القلب ، فيكون من الذين ” إذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَت قُلوبُهُم ” (37)

ـ 40 ـ الدعاء

عن النعمان بن بشير رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

” الدُعاءُ هُوَ العِبادة ” ثم قرأ قوله تعالى: ” وقال ربّكُم ادعوني أستَجِب لَكُم إن الّذينَ يَستَكبِرونَ عَن عِبادَتي سيَدخُلونَ جَهَنّمَ داخرينَ ” (38)

(رواه أصحاب السنن والحاكم وقال الترمذي صحيح الإسناد)

قال بعض العلماء: لقد ذم الله تعالى قوما تركوا الدعاء في قوله تعالى: ” ويَقبِضونَ أيديَهُم نَسوا اللّهَ فَنَسِيَهُم ” (39) ، ولذلك فإن على المؤمن أن يدعو ربه ويكثر من ذلك سواء إستجيب دعاءه أم لا . وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنني أهتم لكي ألهم الدعاء (أي الدعاء المناسب لكل حالة) فإذا ألهمت الدعاء لم أهتم هل أجيب دعائي أم لا . ولئن يدعو المرء فلا يستجاب له خير من أن لا يدعو ، لأن دعاءه هذا هو عبادة يثاب عليها سواء استجيب له أم لا.

إن من الصالحين من جعله الله مستجاب الدعوة كما أثر عن بعض الصحابة كسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وغيره ، لكن عدم إجابة الدعاء قد تعني سوء حال الداعي فلا يعبأ الله بدعاءه وقد تعني أن الله قد أخر إجابته إلى يوم القيامة لكي يرفع من مكانته ، خاصة إذا كان الدعاء متعلقا بأمر دنيوي عاجل ، ففي الخبر المروي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” إن العَبدَ يدعو اللّهَ تعالى وهو يُحِبُّهُ فيقول ياجبريل أخِّر حاجَةَ عَبدي فإني أحِبّ أن أسمَعَ صوتَهُ ، وإنّ العَبد ليدعو اللّهَ وهُو يُبغِضُهُ فيَقولُ يا جِبريل إقضِ لِعَبدي حاجَتَهُ فإنّي أكرَهُ أن أسمَعَ صوتَهُ ” (40)

من الدعاء دعاء مستجاب كدعاء النبي لأمته ، والوالد لولده ، والمظلوم على من ظلمه ، والأخ لأخيه في الله بظهر الغيب ، والدعاء مستجاب في جوف الليل ، وعند السجود فإن العبد يكون أقرب ما يكون من الله وهو ساجد. وكذلك الدعاء عند شرب ماء زمزم . وأفضل الدعاء ما كان عامّا للمسلمين في مصالح آخرتهم أو دنياهم(41). إن الدعاء العام يشبه الشفاعة ، فإذا لم يكن الداعي صاحب تقوى وصلاح بحيث يستحق أن يستجيب الله لما دعى لغيره ، فإن الله لا يأبه بدعائه. قال أنس بن مالك رضي الله عنه(42)ـ (ورفع ذلك الى النبي في بعض الروايات): ” يأتي على الناس زمان يدعو المؤمن للجماعة فلا يستجاب له ، يقول الله أدعني لنفسك ولما يحزبك من خاصة أمرك فأجيبك ، وأما الجماعة فلا ، إنهم أغضبوني ” . ونعوذ بالله من غضبه. فهذا المؤمن الذي يدعو لقوم لا يستحقون أن يبدّل الله أحوالهم ، لا يستجيب الله لدعائه لهم بل يستجيب دعاءه لخاصة نفسه فقط.

إن على المسلم أن يحفظ بعض الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودعاء أصحابه والسلف الصالح ، وأن يتخير من دعائه أفضله ولا يدعو على الناس بالشر إنتقاما لنفسه ، بل يكثر من صالح الدعاء لنفسه ولغيره بالهداية والإستقامة.

ـ 41 ـ الإكثار من الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ أولى النّاس بي أكثرُهُم عَليّ صلاة ”

(رواه إبن حبان والترمذي وقال حسن غريب)

قال الله تعالى: ” إن الله وملائِكَتَهُ يُصَلّونَ على النبيّ يا أيُّها الّذينَ آمَنوا صَلّوا عَليهِ وسَلِّموا تَسليما ” (43). والصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم دعاء له بل من أفضل الدعاء وذلك تعظيما لقدره واعترافا بفضله على البشرية أجمع. والصلاة على النبي من الدعاء المستجاب لا محالة لأن مكانة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله عظيمة والله تعالى هو الذي أمرنا بتلك الصلاة فكيف لا يحقق أمرا هو الذي أمر بأن نطلبه منه. قال الشاعر:

أدِمِ الصلاة على النبي محمـــــّد فـقـبـــــولـها حتـم بغـيـر تـردد

أعـمـــــــالنـا بين القبول وردها إلاّ الصلاة على النبي محـــــمد

لذلك قال بعض العلماء أن الصلاة على النبي لا يدخلها الرياء ولا بأس أن يسِرّ المرء بها أو أن يعلنها . فهي تأدية حق له واجب علينا وليس تكرما منا عليه ، لذلك كان مَن ترك الصلاة عليه حين يُذكر إسمه صلى الله عليه وآله وسلم بخيلا: ” البَخيلُ مَن ذُكِرتُ عِندهُ فَلَم يُصَلّ عَليّ ” (44)

ويستحب أن يتضمن كل دعاء الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أول الدعاء وفي آخره ، لأن الله إذا إستجاب الصلاة في أول الدعاء وآخره فهو أكرم من أن يرد الدعاء الذي بينهما.

وتمام الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجب أن تتضمن الصلاة على آله فذلك ثابت بنص الأحاديث الشريفة . ويستحب إضافة الصلاة على صحبه أيضا لما ثبت من إجماع المسلمين على إستحباب ذلك .

ـ 42 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ” والذي نَفسي بِيَدِهِ لَتأمُرُنّ بالمَعروفِ وَلَتَنهوُنّ عَنِ المُنكَرِ أو ليوشِكُنّ اللّهُ أن يَبعَث عَليكُم عِقابا مِنهُ ثُمّ تَدعونَهُ فلا يُستَجابَ لَكُم ” .

(رواه الترمذي وقال حسن صحيح)

مدح الله تعالى هذه الأمة بوصفها خير أمة: ” كُنتُم خيرَ أمّة أخرِجَت للنّاسِ ، تَأمُرونَ بالمعروفِ وَتَنهونَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤمِنون باللّهِ ” (45) ، فالآية واضحة بربط سبب التفضيل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإذا ما تركت الأمة ذلك فقد فقدت سبب التفضيل وبذلك إستحقت غضب الله تعالى وعقابه وإبتلائها بعدم إستجابة الدعاء حتى من صالحيها الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كما قال تعالى : ” فلولا كانَ منَ القُرونِ مِن قَبلِكم أولوا بقيَّة يَنهونَ عَن الفساد في الأرضِ إلاّ قليلا مِمَن أنجينا مِنهم ” (46). ويعني ذلك أن الذين كانوا ينهون عن الفساد في الأمم السالفة هم الناجون وهم أقلّة.

وقد ذم الله تعالى بني إسرائيل لأنهم تركوا النهي عن المنكر. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” إنّ أولّ ما دخل النقصُ على بني إسرائيل أنه كانَ الرجُلُ يَلقى الرَجُلَ فيقول يا هذا إتّقِ اللّه ودَع ما تَصنَعُ فإنّهُ لا يَحِل لَكَ ، ثُمّ يَلقاهُ مِنَ الغَدِ وهُوَ عَلى حالِهِ فلا يَمنَعُهُ ذلك أن يكونَ أكيلَهُ وشَريبَهُ وقَعيدَهُ ، فلمّا فَعَلوا ذلكَ ضَرَبَ اللّهُ قُلوبَ بَعضِهِم بِبَعض ” ، ثُم قال: ” لُعِنَ الّذينَ كَفَروا من بَني إسرائيلَ عَلى لِسانِ داودَ وعيسى بنِ مَريَمَ ذلك بما عَصوا وكانوا يَعتَدون . كانوا لا يَتَناهونَ عَن مُنكَر فَعَلوهُ لَبِئسَ ما كانوا يَفعَلون . تَرى كَثيرا مِنهُم يَتوَلّونَ الذينَ كَفَروا لَبِئسَ ما قَدّمَت لَهُم أنفُسُهُم أن سَخِط اللّهُ عَليهِم وفي العَذابِ هُم خالِدون . وَلو كانوا يؤمِنونَ باللّه والنّبي وما أنزِلَ إليه ما اتّخَذوهُم أولياء ولكنّ كثيرا مِنهُم فاسقون ” (47) ، ثم قال: ” واللّهِ لَتأمُرُنّ بالمَعروفِ ولَتَنهوُنّ عَنِ المُنكَرِ ولَتأخُذُنّ على يَدِ الظالِمِ ولَتُأطِّرُنَّهُ على الحَقّ أطرا ، ولَتَقصُرُنّهُ على الحَقّ قَصرا أو ليَضربَنّ اللّهُ بِقُلوبِ بَعضِكُم على بَعض ثُمّ ليَلعَنَكُم كما لَعَنَهُم ” (48)

وباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باب واسع لأنّه يشمل باب الدعوة إلى سبيل الله كله: ” أدعُ إلى سَبيلِ رَبِّكَ بالحِكمَةِ والموعِظَةِ الحَسَنَةِ وجادِلهُم بالّتي هي أحسَن ” (49)

إنّ أولَ الصفات التي يجب أن يتصف بها من يأمر بمعروف أن يكون هو نفسه متصفا به ، وإذا ما نهى عن منكر يكون هو نفسه منتهيا عنه ، وإلا كان ممن قال الله تعالى فيهم: ” أتأمُرونَ النّاسَ بالبِرِّ وَتَنسون أنفُسَكُم وأنتُم تَتلونَ الكِتابَ.. ” (50)ـ ، والناس يتعلمون من الأفعال ما لا يتعلمون من الأقوال . وفي أمر رسول الله للمسلمين في صلح الحديبية عظة بالغة . حيث لما فرغ من عقد الصلح وتوقيع الكتاب أمرهم بالنحر والحلق ، فما قام منهم رجل ، حتى قالها ثلاثا حيث لم يتوقعوا أن تكون نهاية عمرته العودة بهذه الصيغة . فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أم سلمة فذكر ما لقي من الناس ، فقالت: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أخرج ثم لا تكلم أحدا منهم كلمة حتى تنحر بُدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج وفعل ذلك ، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غمّا(51)

وهكذا يجب أن يكون دأب من أمر أو نهى وخاصة إذا كان وليا لأمر من أمور المسلمين مهما كان ذلك صغيرا ، فإن طبق الأمر على نفسه إنقاد له الناس بيسر وأطاعوه.

فالمؤمن يأمر بالمعروف وإذا رأى منكرا نهى عنه أو قوّمه بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان(52). ومن رأى منكرا فرضي به كان كمن شارك في فعله ، ومن حضر المنكر فغيره بيده أو بلسانه فله أجر الداعي في سبيل الله ويثاب على قدر نيته ، فإن لم يستطع إنكاره إلاّ بقلبه كان كمن غاب عن ذلك المنكر فلا إثم عليه. لكن مجالسة أهل المنكر ومخالطتهم وعدم الإنكار العلني عليهم تورث قساوة في القلب بحيث يعتاد المرء على المنكر حتى يكاد يظن أنه أمر هين ، وذلك ما دخل على بني إسرائيل.

كما أن من الدعوة في سبيل الله نصح ولاة الأمر أهل السلطان ، فإن كان بينهم ظالما فعلى الأمة أن تأخذ على يده وتنكر فعله وتجبره على العدول عن الظلم ، وهو ما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” ولتُأطرُنّهُ على الحق أطرا ” (فذلك فرض كفاية على الأمة) إن قام به البعض قدر ما فيه الكفاية ، سقط عن الباقين . أما إذا لم يقم به أحد ، أثم الجميع. وهذا هو مقياس إستقامة الأمة أو مدى بعدها عن جادة الحق ، فإن كانت كذلك إستحقت أن لا يستجيب الله دعاء صالحيها ، وأن يعمّها الله بعذاب من عنده ، وما ذلك إلاّ بما قدمت أيديها.

ـ 43 ـ التفكر في خلق الله

عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال بتّ عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أهله ساعة ثم رقد فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال: ” إنّ في خَلقِ السَماواتِ والأرضِ واختلافِ اللّيلِ والنّهارِ لآيات لأولي الألباب... ” إلى آخر سورة آل عمران ، ثم قام فتوضأ واستنّ فصلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذّن بلال فصلى ركعتين ، ثم خرج فصلى الصبح.

(رواه البخاري)

التفكر في خلق الله تعالى عبادة . وهذا فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنظره إلى السماء وتلاوته هذه الآيات من آخر سورة آل عمران . سُئلت أم الدرداء(53): أي عبادة أبي الدرداء أكثر؟ قالت: التفكر والإعتبار. وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: الفكرة في نعم الله عزوجل من أفضل العبادة . وقال إبن عباس رضي الله عنهما: التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه.

زار الإمام الشافعي ألإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنهما وكان الإمام أحمد كثيرا ما يذكر الشافعي بخير بحضور إبنته ، فقررت مراقبته حين يبيت في بيتهم لتعرف شيئا عن عبادته ، فرأته أوى إلى فراشه بعد صلاة العشاء ومكث كذلك حتى نودي لصلاة الفجر فقام وصلى دون أن يتوضأ ، فأخبرت أباها بذلك ، فسأله كيف كانت ليلتك فقال خيرا والحمد لله ، تفكرت في سبعين مسألة من العلم فيها خير للمسلمين . وكان رضي الله عنه يقول: إستعينوا على الكلام بالصمت وعلى الإستنباط بالفكر.

إن إتساع علم الإنسان اليوم يضع على عاتق المسلم واجبا بأن يزيد من تفكره في عجائب خلق الله ليزداد معرفة ويقينا . إن العلم المأثور من قرآن وسنة وآثار من سار على نهجهما ، يؤخذ من الكتب أو السلف الصالح. أما التفكر فيزيد الإيمان رسوخا ويدخل الإطمئنان للقلب ويزيد العلم فوق المأثور. قال تعالى: ” الّذينَ يَذكُرونَ اللّهَ قياما وقعودا وعلى جنوبِهِم ويَتَفَكَّرون في خَلقِ السَماواتِ والأرضِ ، رَبَّنا ما خَلَقتَ هذا باطلا سُبحانَكَ فَقِنا عَذابَ النّار ” (54). وهكذا يقع على عاتق مفكري هذه الأمة وحكمائها وعقلائها واجب التفكر في مصالح الأمة وعرض نتائج أفكارهم بطريقة يمكن الإستفادة منها إستفادة قصوى . فإن هموم الأمة ومصائبها لا تعالجها إلاّ عقول متفتحة تستمد نورها من تقوى الله ، وتفتح بصيرتها على ما حصلت عليه الأمم الأخرى من علوم . فالبحث العلمي المستند إلى هذين الأساسين والذي يهدف خير الأمة في آخرتها ودنياها هو عبادة لأنه إعمال للفكر وشكر لله على نعمة العقل التي أنعم الله بها على أولي الألباب . كما أن التفكر في عجائب المخلوقات نتيجة ما حصل الإنسان عليه مؤخرا من علوم حديثة يزيد المؤمن ايمانا ويجعل قلبه مطمئنا ويقف مبهورا أمام عظمة الله غير المتناهية ويدرك ضعف الإنسان أمام تلك القدرة الجبارة.

ـ 44 ـ دوام الشكر

عن ثوبان(55) رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

” لِيَتَّخِذ أحدُكُم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة مؤمِنة تُعينُهُ على أمر الآخرة ”

(رواه أحمد والطبراني وإبن ماجه)

الشكر حقيقة هو الإعتراف بنعمة الله تعالى على وجه الخضوع مع الإعتقاد أن الشكر نفسه هو نعمة من الله تستحق الشكر مرة أخرى . قال داود عليه السلام: إلَهي كيف أشكرك وشكري لك نعمة من عندك؟ فأوحى الله إليه الآن قد شكرتني. ويقال أن الشكر على الشكر أتم من الشكر على النعم الأخرى وذلك بأن ترى أن الشكر بتوفيقه يستحق الشكر ، وهذا الشكر يستحق الشكر مرة أخرى... إلى ما لا نهاية . قال الجنيد(56): الشكر أن لا يستعان بشيء من نعم الله تعالى على معاصيه. ومن أسماء الله الحسنى الشكور ، ومعناه أنه يجازي عباده على الشكر ويعطي الكثير من الثواب على القليل من العمل.

الشكر عبادة ، وهو من عبادات القلوب قبل الألسنة ، لكن له دلائل تخبرك بصدق الباطن . من هذه الدلائل كثرة العبادة ، فلقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقوم بالليل حتى تورمت قدماه وهو يعلم أن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ولما سئل عن ذلك قال: ” أفلا أكونُ عَبدا شَكورا ” (57) ومن دلائل الشكر لله تعالى على نعمه الكثيرة عدم إزدراء حتى النعم القليلة ، ومنها أيضا شكر الناس على إحسانهم مهما قلّ فمن لا يشكر الناس لا يشكر الله. وقد تعهد الله سبحانه وتعالى بالزيادة للشاكرين فقال: ” لَئِن شَكَرتُم لأزيدنَّكُم ” (58) ، ومن دلائل الشكر أيضا إظهار نعم الله على العبد ، فالله تعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده(59) شرط أن لا يكون ذلك مباهاة أو رياء أو سمعة . والشكر بالأفعال هو أبلغ من الشكر باللسان . فشكر نعمة المال الصدقة ، وشكر الصحة إتعاب البدن في مرضاة الله وشكر نعمة الجاه قضاء حوائج الناس،فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ما أنعم الله على عبد نعمة فأسبغها عليه ، ثم جعل إليه حوائج الناس فتبرم بها إلاّ وقد عرض تلك النعمة للمهالك ” (60)

والزوجة المؤمنة الصالحة هنا خير ما يعين المرء على أمور دينه في الدنيا من حفظ لنفسها وطمأنة لزوجها وحسن تربية لولدها ، وهي نعمة عظيمة تستحق الشكر الكثير لمن أوتيها . ويحث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث على تخير الزوجة المؤمنة لأن ذلك مفتاح لنعم وأعمال صالحة كثيرة أخرى.

ـ 45 ـ دوام فعل الخير

عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قيل يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور يصلون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم فقال: ” أوَ ليسَ قَد جَعَلَ اللّهُ لَكُم ما تَصَدَّقونَ؟ إنّ لَكُم بِكُلّ تَسبيحَة صَدَقَة وَبِكُلّ تَكبيرَة صَدَقَة وَبِكُلّ تَهليلَة صَدَقَة وبِكُلّ تَحميدَة صَدَقَة وَأمر بِمَعروف صَدَقة وَنَهي عَن مُنكَر صَدَقَة وَفي بِضعِ أحَدِكُم صَدَقة ” ، قالوا يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته يكون له فيها أجر؟ فقال: ” أرأيتُم لو وَضَعَها في الحَرام أليسَ كانَ يكونُ عليهِ وِزر؟ ” قالوا بلى ، قال: ” فكذلك إذا وَضَعَها في الحلالِ يَكونُ لَهُ الأجرُ ”

(رواه مسلم وأبو داود وأحمد)

إن ما يفعله المؤمن في حياته من أكل وشرب واكتساب للرزق وتمتع بالطيبات ، كل ذلك ينقلب إلى عبادة إذا صدقت النية . فعلى المؤمن أن يكون حاضر النية على الدوام متذكرا ربه ، فلا يعمل عملا إلاّ وهو مؤمن بما فيه الأمر من الحكم ولا يترك شيئا إلاّ وهو مؤمن بما فيه من الترك من الحكم لله ، فإذا كان هذا حاله فإنه في كل لحظة من لحظاته مع الله تعالى ، فهو في عبادة دائمة . فالترويح عن النفس ولقاء الصديق الصالح ولبس الثوب الجميل ، كل ذلك عبادة قد تزيد في ثوابها عن صلاة تطوع مع كراهة النفس لها وذلك بفضل حضور النية في تلك الأفعال . كما مر في الحديثين (1 و 25). يعكس هذا الحديث التداخل التام بين أعمال الآخرة وأعمال الدنيا في هذا الدين . فليس هناك فصل بينهما لأن الكل لله. ولفظة الدين تشمل ذلك كله ، لأن ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من كتاب من عند الله وهدي نقله إلينا عن دقائق حياته ، أعطى المسلمين المثال الحي للعيش في هذه الدنيا على أساس أنها جزء من حياة طويلة تشمل الحياة الدنيا والحياة بعد الموت ، فالله تعالى قد خلق الإنسان للعبادة: ” وما خَلَقتُ الجِنّ والإنسَ إلاّ لِيَعبُدونِ ” (61). وهكذا يتصرف المؤمن الصادق على أن كل لحظة من لحظاته هي عبادة لله سواء كان مؤديا لفرض إفترضه الله عليه لخدمة آخرته أو دنياه ، فهما سواء ، لكنه إذا خُيّر غيره فاختار تقديم مصالح الدنيا على مصالح الآخرة فهو يختار مصالح الآخرة على مصالح الدنيا دون أن ينسى نصيبه من الدنيا: ” وابتَغِ فيما آتاكَ اللّهُ الدارَ الآخرةَ ولا تَنسَ نَصيبَكَ مِن الدُنيا ” (62)

للأعلى

ـ1ـ محمد بن منازل كان عالما بالحديث ، مات بنيسابور سنة 329هـ.

ـ2ـ سورة العنكبوت الآية 69.

ـ3ـ رواه البخاري.

ـ4ـ سورة النساء الآية 103.

ـ5ـ سورة البقرة الآية 45.

ـ6ـ سورة ألأنبياء الآية 30.

ـ7ـ سورة التوبة الآية 108.

ـ8ـ عن إبن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مر بقبرين فقال: ” إنَّهُما ليُعَذّبانِ وما يُعَذّبانِ في كَبير ، بلى إنَّهُ كَبير ، أمّا أحَدُهُما فَكانَ يَمشي بالنَميمةِ ، وأمّا الآخر فكانَ لا يَستَتِرُ مِن بولِهِ ” متفق عليه.

ـ9ـ سورة الإسراء الآية 27.

ـ10ـ سورة الحج الآية 37.

ـ11ـ سورة الأنبياء الآية 92.

ـ12ـ رواه أبو القاسم الأصبهاني عن إبن عباس رضي الله عنهما.

ـ13ـ رواه مسلم عن سهل بن حنيف رضي الله عنه.

ـ14ـ متفق عليه من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.

ـ15ـ سورة الأنعام الآية 162.

ـ16ـ متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ـ17ـ سورة التوبة الآية 52.

ـ18ـ سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم الآية 7.

ـ19ـ سورة الأنفال الآية 60.

ـ20ـ أبو يعلى هو أحمد بن علي بن المثنى التميمي صاحب المسند الكبير ، ولد سنة210هـ وتوفي سنة 307.

ـ21ـ سورة المائدة الآية 77.

ـ22ـ سورة العنكبوت الآية 45.

ـ23ـ حديث: ” طلب العلم فريضة على كل مسلم ” وليس فيه كل مسلمة فالمسلم يشمل الذكر والأنثى رواه الطبراني والبيهقي عن إبن عمر رضي الله عنهما.

ـ24ـ سورة التوبة الآية 122.

ـ25ـ أبو محمد سفيان بن عيينة ، ولد بالكوفة سنة 107هـ ، حفظ القرآن وهو إبن أربع سنين وكتب الحديث وهو إبن سبع ، كان عالما جليلا وزاهدا ورعا ، سكن مكة وبها توفي سنة 198هـ.

ـ26ـ حديث ” نَضَّرَ الله امرءا سمع مقالتي فوعاها ، فرب مبَلَّغ أوعى من سامع ” رواه الترمذي وإبن ماجه وأبو داود وأحمد عن جبير بن مطعم.

ـ27ـ سورة الزمر الآية 9.

ـ28ـ سورة فاطر الآية 28.

ـ29ـ سورة آل عمران الآية 191.

ـ30ـ سورة الجمعة الآية 10.

ـ31ـ سورة الأنفال الآية 45.

ـ32ـ سورة الأحزاب الآية 35.

ـ33ـ سورة النساء الآية 142.

ـ34ـ أخرجه إبن حبان والطبراني والبيهقي من حديث معاذ.

إبن حبان هو أبو حاتم بن محمد بن أحمد بن حبان التميمي البستي. تولى قضاء سمرقند وكان عالما بالطب والفقه واللغة إضافة إلى الحديث والوعظ. توفي سنة 354هـ.

ـ35ـ سورة البقرة الآية 152.

ـ36ـ أبو بكر بن جحدر الشبلي ، خراساني الأصل ، بغدادي المولد والمنشأ ، تاب في مجلس خير النساج وصحب الجنيد ومن عاصره ، كان عالما فقيها على مذهب مالك ، كتب الحديث ، عاش 87 سنة ومات سنة 334هـ ببغداد.

ـ37ـ سورة الأنفال الآية 2.

ـ38ـ سورة غافر الآية 60.

ـ39ـ سورة التوبة الآية 62.

ـ40ـ ذكره الإمام القشيري في رسالته ولم أجده في كتب الصحاح.

ـ41ـ شروط الدعاء المستجاب وأفضل الدعاء ، راجع كتاب هذا القرآن في مائة حديث نبوي للمؤلف ، شرح الحديثين 13و58.

ـ42ـ كتاب الزهد لعبد الله بن المبارك المروزي رضي الله عنه.

ـ43ـ سورة الأحزاب الآية 56.

ـ44ـ رواه الترمذي من حديث الحسن بن علي رضي الله عنهما وقال حسن صحيح.

ـ45ـ سورة آل عمران الآية 110.

ـ46ـ سورة هود الآية 116.

ـ47ـ سورة المائدة الآيات 78-81.

ـ48ـ رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن.

ـ49ـ سورة النحل الآية 125.

ـ50ـ سورة البقرة الآية 44.

ـ51ـ راجع كتب السيرة النبوية: فقه السيرة للدكتورسعيد رمضان البوطي ، والسيرة النبوية ، والآثار المحمدية لأحمد زيني.

ـ52ـ حديث: ” من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ” رواه مسلم وأصحاب السنن وأحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.

ـ53ـ أم الدرداء هي خيرة بنت أبي حدرد زوجة أبي الدرداء عويمر الأنصاري ، كانت من فضلى النساء ، حفظت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وروى عنها وعن زوجها جماعة من التابعين ، توفيت قبل أبي الدرداء وتدعى أم الدرداء الكبرى ، ثم تزوج بعدها هجيمة وتدعى أم الدرداء الصغرى ، وهي المقصودة هنا ، وقد توفيت بعد أبي الدرداء وروت عنه ، قالت لأبي الدرداء قبل موته: إنك خطبتني في الدنيا من أَبَوَيَ فأنكحوني ، وأنا أخطبك إلى نفسك في الآخرة ، فقال لها فلا تنكحي بعدي ، فوفت بذلك حين خطبها معاوية من بعده فأبت.

ـ54ـ سورة آل عمران الآية 191.

ـ55ـ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إشتراه ثم أعتقه ، فخدمه إلى أن مات ، ثم تحول إلى الرملة ثم حمص ومات بها سنة 54هـ. كان لا يسأل أحدا شيئا ، عملا بما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ” من يتكفّلُ أن لا يَسألَ النّاسَ شيئا أتَكَفّلُ لَهُ بالجَنَّةِ ” رواه أبو داود والحاكم.

ـ56ـ الجنيد هو أبو القاسم بن محمد المعروف بالبغدادي. كان أبوه يبيع الزجاج ، لذلك يعرف بالقواريري. أصله من نهاوند ومولده ونشأته في العراق. كان فقيها يفتي على مذهب أبي ثور. صحب خاله السري السقطي والحرث المحاسبي. توفي سنة 297هـ في بغداد.

ـ57ـ رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها.

ـ58ـ سورة إبراهيم الآية 7.

ـ59ـ حديث: ” إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده ” رواه الترمذي والحاكم من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.

ـ60ـ رواه الطبراني في الأوسط والعقيلي في الضعفاء والدارقطني

ـ61ـ سورة الذاريات الآية 56.

ـ62ـ سورة القصص الآية 77.

للأعلى

arabic1.jpg (2433 bytes)